(و ها هنا زعترٌ جبلي، إنهُ للذكرى؛ أرجوك، يا حبيبي: تذكّر!)
و يليام شكسبير
1
في غِرة شهرِ محرم من عام 662 للهجرة، صدرَ مرسومٌ سلطاني من جهةِ جبلِ المقطّم، و بختمِ السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري، يحذرُ من الاجتراء على تدنيس القبور و انتهاك حرمة الأموات، و يتوعدُ بالجلدِ و الحبسِ كلَ من سوّلت له نفسه القيام بخلاف ذلك. لجّ العامةُ بالحديث عن سببِ صدورِ هذا البيان، و استغربوا ما جاءَ في متنه، إلا أن العارف منهم علمَ أن للمرسوم علاقة بالشكوى التي رفعها أعيان التجار اليهود القاطنون أسفل باب النصر، و الذين لم يعد بإمكانهم الصبر أكثر على الانتهاك الخفي و المتكرر للقرّافة الخاصة بموتاهم.
حرصَ رئيس الشرطة أول الأمر على أن يرسل كوكبة من رجالهِ كي يحرسوا المقبرة، و رغم أنه كان مشتهرا بين الناس بكراهيتهِ الشديدةِ لليهود، إلا أنه لم يكن يملك أن يعصي مرسوماً ممضياً بختمِ السلطان نفسه. و لكن و بعدَ انقضاءِ أسبوعٍ كامل دون أن يُنبشَ قبرٌ أو تُسرق جثة، لم يسع رئيس الشرطة إلا أن يرسل رجاله إلى مناطق أكثر اضطراباً و أجدى بالمراقبة كباب زويلة و الحجارين و بندرة الإسلام و سويقة علي. لهذا السبب، و بعدَ أن مرّ شهر على صدور المرسوم السلطاني، لم يجد القاسمُ كبير حرجٍ في التسللِ مجدداً مع أستاذه أبي الحسن علاء الدين، مستترين تحتَ جُنحِ الليل، ليعاودا اقتحام القرّافة الخاصة بيهود القاهرة.
توقفَ القاسمُ أمامَ قبرٍ يُفترض أن يكون رطبَ الثرى، و نظر إلى أستاذه أبي الحسن و كأنهُ ينتظر منه نظرة تشجيع، فأومأ الأخير برأسه، و سرعان ما هوت مجرفةُ القاسم في الظلام، لتنبشَ أرض القبر و تقلبَ تربته. التفتَ الأستاذ يمنة و يسرة ليتثبتَ من خلو المقبرة، و عندما عاد ببصره إلى القبر، رأى المجرفةَ ترتدُ بسرعةٍ بعدَ أن اصطدمت بما يشبه التابوت. أزال القاسمُ باقي التراب عن الصندوق الخشبي، و انحنى أبو الحسن إلى الأرض ليفتحَ عنقَ جرابٍ كان يخفيه بين ثيابه، و عندما أخرج القاسمُ الجثة الملفوفة في أكفانها البيضاء، تعاونا على أن يحشراها في الجراب، و انطلقا بسرعةٍ مغادرين المقبرة، بعد أن أغلقا التابوت، و أهالا التراب فوقه.
وضعَ القاسمُ الجرابَ فوقَ ظهره، و أخذ يمشي متثاقلاً تحت ظلال الحيطان، و قد تقدمه أستاذه أبو الحسن، كي يتثبّت من خلوّ الدرب من الشرطة. لم يكن يلزمهما إلا أن يقطعا درباً قصيراً كي يصلا بحمولتهما المشبوهة إلى دار أبي الحسن أسفل قيسارية الملقية. سارع أبو الحسن إلى بابه ليعالج القفلَ بالمفتاح، و تبعه القاسمُ دون أن ينتظر أذناً أو إشارة، فلقد كان يعرفُ الدار جيداً، و خصوصاً الغرفة الشرقية الخاصة بأبحاث أستاذه ذات الطبيعة الشائكة.
ألقى القاسمُ الجثةَ على طاولةٍ خشبية تتوسط الغرفة، و سحب الجراب، و أزال الأكفان، ليخرجَ وجهُ اليهودي المتصلّب، بعينين غائرتين، و فكٍ ملتحي مائل. أقفل أبو الحسن باب الغرفة، و سارع إلى إحدى الزوايا، ليخرج منها أدواته العديدة من مشارط و مبارد و كلاليب. اعتلى أبو الحسن الطاولة الخشبية، و شمّر عن ذراعيه، و أمسك بمشرطٍ مدبب النهاية، ليغرزه في صدر الجثة، و ليحفر خطاً مستقيماً، يمتدُ طولياً من الترقوةِ اليسرى للجثة حتى سرتِها، بامتداد عظمِ القصّ. ناولُ القاسمُ أستاذهُ مقضاً و مطرقة، ليبدأ الثاني بالحديث بينما يداه مشغولتان بتحطيم عظام الجثة:
– ابنُ سينا كان عظيماً، ليس في ذلك شكّ. و لكن ما آخذهُ عليه هو أنهُ تقبّلَ نظرية جالينوس بخصوص الثقوب الموجودة بين حجرتي القلب دون أن يمحّص فيها. باللهِ عليك، أخبرني، كيف يفترض بفتحاتٍ غير مرئية، متناهية الدقة، متناهية الصغر- أن تنقل كل الدم الجاري في عروقنا أثناءَ نبضة واحدة؟ و لو افترضنا جدلاً وجودها، ما الذي سيكفلُ انتقالُ الدمِ من اليمين إلى اليسار، بدل انتقاله من اليسار إلى اليمين؟ من يفحص عضلة الحجرة اليسرى للقلب، سيلاحظ تضخمها مقارنة باليمنى، و هذا يدل على أن الضغط الموجود داخلها أكبر من ذاك الموجود باليمنى بكثير. ألا يجدر بالدم بعد ذلك أن ينتقل من اليسار إلى اليمين، و هو ما سيبطلُ نظرية جالينوس، و يجعل ثقوبه غير الموجودة عديمة جدوى!
توقفَ أبو الحسن عن الحديث، و أشار إلى القاسم كي يُنشبَ الكلاليب بجلدِ الكوةِ المفتوحة في صدر الجثة. تصببتْ جبهةُ أبو الحسنِ عرقاً، و هو يشتم الرائحة العفنة المتصاعدة من أحشاء الجثة. تناول بيمناه المشرط مجدداً، و شقّ بسرعةٍ تامور القلب، و كم كانت خيبتهُ هائلة و هو يرى انحلال عضلات القلب و امتلائها بالقيحِ و الصديد.
نزلَ أبو الحسن عن الطاولة، و وضع مشرطه جانباً، و هو يتمتم بضيق:
– ألم تخبرني بأن صاحب الجثةِ قد مات حديثاً؟
– هذا ما أكدهُ لي سمعان اليهودي. كما أن تراب القبر كان رطباً!
– هذا لا يجدي يا قاسم. أنا لا أملك وقتاً أضيّعه.
– الأمر ليسَ بهذه السهولة، و خصوصاً بعد صدور المرسوم السلطاني. لا أستطيع أن أطوّف في أحياء اليهود سائلاً عن وفياتهم و جنائزهم.
سادَ الصمتُ في الغرفة لدقائق، علتْ بعدَها علاماتُ الندم وجه الأستاذ بسبب الحدةِ التي أبداها تجاه تلميذه. تناول القاسم عنق الجراب، و عاون أستاذه في رمي كومة الجسد مبقورِ الأحشاءِ داخلَه.
– سأغري سمعان اليهودي بمزيدٍ من النقود. أنا متأكد أن الذهب سيجعله أشد حرصاً و إسراعاً بإعلامي عن الجثث الجديدة.
ربّتَ أبو الحسن على كتف تلميذه القاسم، و ساعدهُ في وضع الجراب المربوط على ظهره، و بعد أن قاده إلى فناء الدار، أقفل الباب خلفَه، ليستأمنه على دفن الجثة في الحديقة الخلفية.
سارَ أبو الحسن إلى الجهة الغربية من المنزل، حيثُ غرفة نومِه، و عندما اقتربَ من بابها، سمع صوتَ فاطمة:
– أهذا أنتَ يا عليّ؟
ابتسمَ أبو الحسن في رقة، و دخل الغرفةَ بوجهٍ متهلهلٍ بشوش، و كأنه لم يأت للتوّ من المقبرة، و لم ينهشْ جثةَ ميتٍ بمشارطهِ و كلاليبه. قبّل أبو الحسن رأس زوجته الهزيلِ الشاحب، و مسحَ بأصابعه العرقَ المتفصّد من جبينِها.
– هل كنتَ بصحبةِ القاسم؟
أومأ أبو الحسن برأسه بالإيجاب.
– أنتَ تلازمهُ كثيراً هذه الأيام. احذر من أن تخصّه بالحظوة، فتوغر بذلك باقي صدور تلاميذِك.
– حُقّ للمبرّزِ أن يلقى من الانتباه ما يماثل الجهدَ الذي يبذله في سبيل التعلم.
– هكذا أنت، تريدُ من الناسِ جميعاً أن يكونوا بمثلِ نباهتِكَ و حدَبِك. كيفَ هو الجوُ بالخارج؟
– لا زالَ بارداً.
هل تنامُ معي هذه الليلة؟
– و كل ليلة.
أجاب أبو الحسن و هو يطبعُ قبلة ثانية فوق خد زوجته، ثم يمشي و إياها إلى سريرِ نومهما. أبدل أبو الحسن ثيابه، و عندما رجع إلى السرير، و جد زوجته تغطّ في نومٍ عميقٍ هادر. كان صدرها يعلو و يهبط في صعوبةٍ مع كل نفسٍ تجترئه. وضع أبو الحسن سبابته و وسطاه فوقَ معصمها، ثمّ اقترب بأذنه نحو صدرها، محاولاً الاستماع إلى دقات قلبها، دون أن يوقظها. عندما فرغ من فحصه، أخذ يتأمل وجهها المُحببَ التعِب في حزنٍ و إشفاق.
استلقى أبو الحسن على ظهره، و أسلم عقله للأفكار التي تنتهبه عادةً في هذا الوقت المتأخرِ من الليل. تباً للحمى اللعينة، يصارعها و يطفئها في كل مكان، ثم تأبى إلا أن تهاجمه في عقر داره، و تختار أعزّ الناس إليه، فتصيب قلبها بهذا الضعف الذي يجعله يهدرُ تحتَ راحة يده، و تسبب مشقّة نفسها و انتفاخ بطنها و تورم أطرافها. لو استطاع فقط أن يحلّ لغز جالينوس، أن يثبتَ خطأ نظريته، أن يفهم تشريح القلب و طريقة نبضه و سببها، حينها، لربما استطاع أن ينقذ أعزّ الناس إليه، أن يشفيها من علتها، أن ينجب منها ذريةً و عيالاً، أن يعيش معها و لها، ما أمكنهما أن يعيشا معاً.
عندما أغمض أبو الحسن عينيه رأى حلماً غريباً: لقد كان يمسكُ بين أصابعه وردةً حمراء، قانية. كان كلَ ما حولَها ظلاماً. وضع الوردة الحمراء على الطاولة. تناولَ مشرطه الباردَ المدبب، و بدقةٍ متناهية، رسمَ شقّاً دقيقاً غائراً، يجري عامودياً من عنق الوردةِ حتى جذرِها. من هذا الجرحِ؛ أخذتْ قطرات من الدم القاني تتفصدُ تباعاً، و تنسكبُ لتتشربها مساماتُ الطاولة الخشبية.
2
هذه المرة، كانت تربةُ القبرِ رطبةً حقاً!
أخذت الريحُ المعوِلة تصفرُ من الجهة البحرية، و تدفعُ بالخرقِ و القوارير في كلِ اتجاه، و كأنها مكنسة كونية. نظرَ أبو الحسنِ إلى البدرِ المتلألئ في السماء في قلقٍ، و قد توجس ريبةً من نورِه الذي سيحرمهما ثوب الظلام الذي اعتادا الاستتارَ به. أخرجَ أبو الحسنِ الجراب من ثيابه، بينما أخرجَ القاسمُ مسحاته، و ما كاد يضربُ بها جوفَ الثرى، حتى سمعا صراخاً صادراً من شمال المقبرة، ليُتبع سريعاً بأصواتِ أقدام و خطوات.
لم يكن أبو الحسن و لا القاسم يحتاجان للتريث مكانهما كي يتأكدا من هوية الرجال المنطلقين باتجاههِما. كان التريثُ كفيلاً بإلقاء القبض عليهما، هما اللذين يحفظان المرسوم السلطاني عن ظهر قلب، و يدركان أن من قُبض عليه بالجرم المشهود، و يداه معفرتان بالتراب، سوف يكون مصيرهُ الجلد أو الحبس، أو كليهما، دون قيدٍ أو شرط.
انطلق الرجلانِ غرباً هاربين باتجاهِ سويقة علي، و عندما وصلا ساحتها الخالية و حوانيتها المقفولة، سلكا طريقاً شماليةً تقودهما إلى القيسارية عبر زقاقٍ غير مأهول، إلا أنهما عند وصلا آخر الزقاق، إذا بهما يقفان أمام حائطٍ عالٍ يسدُ طريقهما. نظرَ أبو الحسن في قلقٍ باتجاهِ فم الزقاق، و استطاع أن يستخلص من الريح أصوات الأقدام البعيدة. أشار بعنقه إلى الحائط، ليقوم القاسم بتشبيك يديه، منتظراً قدمي أستاذه الحافيتين، و ما إن قفز أستاذه، حتى دفع بهِ إلى أعلى الجدار. تشبّث أبو الحسن بأظفاره بالحائط، ثم استخدم عضلات ذراعيه الضعيفتين كي يدفع بجذعه إلى الأعلى، وما إن امتطى الحائط بفخذيه، حتى تدلّى بجذعه إلى الأسفل نحو تلميذه، الذي تعلّق بيد أستاذه و قفز بسرعة، ليمتطي هو الآخر جرفَ الجدار.
كانت أصواتُ رجال الشرطة تزدادُ اقتراباً كلَ لحظة. كل ما عليهما صنعهُ الآن، هو أن يقفزا من أعلى الحائط، حيثُ الجهة الشمالية، و حينها سيفقد رجالُ الشرطة أثرهما، و سيسيران بضعة أمتارٍ حتى ينتهيان إلى موضع دار أبي الحسن. أشارَ أبو الحسن إلى تلميذه كي يقفز، إلا أن الخوفَ بدا واضحاً في وجه القاسم، خصوصاً بعد أن لاحظ عمق الهوة الموجودة شمال الحائط، و التي تفوقُُ تلكَ المسافة التي قفزاها لتوهما جنوب الحائط. عندما لاحظ أبو الحسن ترددَ تلميذه، أغمض عينيه، و رمى بجسده من فوقِ الحائط، ليهوي كومةً واحدة، على ذراعه اليمنى، فوقَ أرض الزقاق.
كانت صرخات الشرطة تزدادُ اقتراباً. استوى أبو الحسن على قدميه، و أشارَ بإلحاحٍ إلى القاسم كي يقفز. عضّ القاسم على شفتيه، و حاولَ أن يستردّ جأشه، خصوصاً بعد أن رأى أستاذه يقفُ سالماً معافىً أسفل الحائط. أغمض القاسمُ عينيه، و ملأ صدرهُ بالهواء، و كأنه يهمُ بالقفز وسط البحر، و عندما قفز، هوى إلى الأسفل رأساً على عقب، لتصطدم جمجمتهُ بأرض الزقاق، و لتندقّ عنقُه.
وقفَ أبو الحسن مصعوقاً فوقَ جسد تلميذه، متأملاً الدمَ المنساب مهراقاً من جمجمته. أيعقلُ أن مات؟ انحنى أبو الحسن فوق القاسم، و تحسسَ بأصابعه أخدعَه، و لكن هناك، حيثُ كان الدمُ يجري قبل دقائق، لم يجد سوى هدوءاً موحشاً أشبهَ بهدوء الليل. أيعقل أن يموتَ رجلٌ بهذه السرعة؟ ابتعدَ أبو الحسن بقدميه عن الجثة، و أخذ يسير كالسكران نحوَ داره، و لكنه فجأةً توقف، و قد اتسعتْ عيناه، و بعد ترددِ ثوانٍ، رجع على أعقابه نحو الجثة.
انحنى أبو الحسن على القاسم، و أمسك بتلابيبه. رفعه بصعوبةٍ فوق ظهره، و أخذ يسيرُ مترنحاً باتجاه منزلِه. لم يعد باستطاعته أن يسمع لا أصوات صرخات الشرطة و لا وقع أقدامهم. لا بدّ أنهم فقدوا أثرهما بعد أن انتهوا بالزقاق المسدود. حتى الريحُ الشمالية توقفت عن اللعبِ بالمِزقِ و القوارير. كان الشيء الوحيد الذي يدوي في أذني أبي الحسن صوت نبضات قلبه. أحسّ بالاطمئنان عندما لمحَ جدران منزله في نهاية الزقاق. تمطى بظهره، و ابتلع ريقه، و أخذ يسارع في خطواته، علّه يبلغ موضع الأمن قبل أن تدهمه الشرطة.
و لكنهُ، عندما وصل بابَ دارهِ، كاد أن يسقطَ حملهُ بسببِ الذعر! هناك، أسفلَ عتبةِ داره، و تحتَ ضوءِ القمر، كانت تنتصبُ وردةُ حمراء، حمراء قانية! لم يسبق له أن رآها تحت عتبة داره من قبل. لم يسبق له أن رآها سوى مرةً واحدة: في حلمه.
استعاذ أبو الحسن من الشيطان الرجيم، و سارع بالاحتماءِ بحرمةِ داره، حيثُ أقفلَ البابَ خلفه. على البلاط، كان الدمُ المنبعث من رأس القاسم يرسمُ خطوطاً متقطعة. استدعى أبو الحسن ما تبقى لديه من قوة، و حمل الجثة إلى غرفة أبحاثه الشرقية، و ألقاها بتعبٍ على الطاولة. لقد كانت ظلال الموت تمتدُ ببطءٍ فوقَ وجه القاسم، و كأنها ظلالُ خسوف القمر.
عاد أبو الحسن إلى باب داره، و فتحه ليتفقد عتبة المنزل، و عندما لم يرَ لا دماً و لا خطوطاً يمكنُ أن تدّلَ عليه، حمد الله، و هم بإقفال باب منزله، لولا أن تذكر الوردة الحمراء القانية. انحنى أبو الحسن نحو الوردة، و قطفها بعناية من جذرها، و رفعها نحو أنفه. كان شذاها يبعث الخدرَ في النفوس، و يختلطُ بهواء هذه الليلة الباردة ليزيدها غموضاً. فجأةً، سمعَ أبو الحسنِ صوتاً واهناً ينبعثُ وراءَ ظهره:
– علي، هل هذا أنت؟
التفتَ أبو الحسن وراءه و قد تذكر زوجته المستلقية عليلةً في الفراش. أسرع بإقفال باب الدار، و قد زايلهُ الخدر، و انطلقَ قاصداً حجرةَ نومهما.
على طرفِ الفراش، كانت فاطمةُ تجلسُ، و قدماها بالكاد تلمسان الأرض. أحسّ أبو الحسن بفيضِ حبٍ و هو يرى قدمي زوجته الصغيرتين، و لم يملك إلا أن ينحني على إحداهما ليقبلها. توّردت وجنتا فاطمة الشاحبتين بلونٍ غير مألوف. تمتتْ بصوتٍ مبحوح:
– ما هذا الذي في يدِك؟
رفعَ أبو الحسن الوردةَ باتجاه زوجته، و تمتمَ هو الآخر بصوتٍ متحشرج:
– وردة! قطفتها لكِ.
التمعت عينا فاطمة و هي ترى هذه المخلوقة اللطيفة بين يدي زوجها الخشنتين، و هي التي لم يسبق لها أن شاهدت بينهما سوى المشارط و المبارد و الكلاليب. انحنت فاطمة بجسدها المتعب نحوَ الوردة، و أمسكت بها من عودها بكلتي يديها، و كأنها تخشى أن تتلفها، أو أن تسقطها على الأرض.
نظرَ أبو الحسن إلى عيني زوجته اللامعتين، المكان الوحيد الذي لم تمتد يدُ المرضِ لتغيرَه، ثم نظرَ إلى خصلات شعرها المتدلية فوق كتفيها، و إلى يديها الصغيرتين، الممسكتين برقةٍ عنقَ الوردة، ثمّ أشار إليها كي تناوله الوردة، و اعتدل على قدميه، و وضعها في صدغ زوجته، و بين طياتِ شعرها المحببة.
– ها هنا أجمل.
قالَ ذلك، ليستدير على أعقابه قاصداً بابَ الغرفة.
– إلى أين أنتَ ذاهب؟
– غرفة درسي.
– ألن تنام معي؟
– ليسَ الآن. أمامي عملٌ كثير يلزمني الفراغ منه.
اتجهَ أبو الحسن إلى الغرفة الشرقية، حيثُ تستلقي جثة القاسم، ليقفلَ بإحكامٍ البابَ خلفه. هذه المرة، لم يلقِ و لو نظرة واحدة باتجاه وجه القاسم. اتجه إلى الزاوية التي يحتفظ فيها بأدواته، و بعثرها بسرعة على الطاولة، و شمّر عن ذراعيه، و هو يرى في مخيلته القلب الطازج، و هو يتحللُ في كل دقيقةٍ داخل صدرِ تلميذه.
أمسكَ بإحكامٍ مشرطه البارد، و انحنى بظهره الموجوع نحو الجثة، و عندما لامس بمعدنهِ جلدَها الشاحب، سمعَ صوتَ طرقٍ عنيف ينبعث من باب الدار، و يملأ فضاءَ الحيّ و الدارِ معاً.
ألقى أبو الحسنِ برعبٍ المشرطَ من يدِه. في الخارج؛ تواصل الطرق. لم يكن أبو الحسن يملك الوقتَ الكافي لإخفاء الجثة، و لا للتفكير في كيفية إخفائها. سارعَ إلى ركنٍ من أركان الغرفة، و تناولَ من هناك غِلالة بيضاء، أسبلها بكاملها فوق الجثة و الطاولة و الأدوات. عندما فرغ، غادر غرفة درسه، و أقفل بابها مرتين، ثم استجمعَ شجاعته، و اتجه نحو باب الدار الرئيسي كي يجيب صوتَ الطرق.
عندما فتحَ الباب، كانت وجوهُ ثلاثة من رجال الشرطة تطلُ من أعلى بشواربها الكثّة. ظلّ أبو الحسن واجماً مكانه، لا يريمُ حراكاً، و كلما همّ بالحديث، تمنعت عليه الكلمات. في الأخير تمتم بصوتٍ بالكادِ يُسمع:
– ماذا تريدون؟
– هناكَ آثار دماء تؤدي إلى دارك.
– دماء!
– لن نشغلك طويلاً. سنتفقد غرفكَ بالداخل ثم ننصرف.
أفسح أبو الحسن الطريق لرجال الشرطة و هو يحسّ بالإعياء يسري في ساقيه. لو أنهم وصلوا إلى الغرفة الشرقية، حيث الجثة ممدة وراء القفل، فستكون نهايته. يجبُ عليه الآن يتمالك جأشه كي لا تخونهُ رعشة أو تدلُ عليه كلمة، و أن يسعى إلى تضليلهم و إبعادهم عن مكان الجثة.
– ما هذه الغرفة؟
– غرفة منامي و زوجي.
– هل يسكنُ في الدار أحدٌ غيركما؟
– لا أحد.
قال ذلك، و هو يلاحظُ بترقبٍ خطواتهم الكسولة تبتعدُ ببطءٍ عن الغرفة المقفولة و عن الجثة. توقفوا عند الباب الرئيسي للدار، و أخذ أحدهم يعتذر لأبي الحسن بسبب إزعاجهم له وسط الليل، و لكن الرعبَ سرعان ما زلزل قلبَ أبي الحسن و كاد أن يتلفَه عندما دوّى من الجهة الغربية صوت مألوف، كان يمكن لهُ أن يتهللَ فرحاً لسماعه في أي وقتٍ، ما عدا هذا الوقت:
– ماذا يجري يا علي؟
امتقع وجهُ أبو الحسن بصفرةٍ تشبهُ صفرةَ الموت.
– كنتُ أحسبُ أن زوجُكَ تنامُ في الجهة الأخرى من الدار!
سقطَ أبو الحسن على ركبتيه، و مال برقبته إلى الأرض، و عندما فعل، لاحظ آثار الدماء التي تملأ بلاط داره، و تتحلق حولَه و كأنها دوائر بطليموس الفلكية.
3
هناكَ أساطيرُ كثيرةٌ تُشاعُ حولَ قلعة الجبل، المكان الذي أراد صلاح الدين الأيوبي بنائه كي يكون حرزاً له و حصنا يقيه شرّ الفاطميين في الداخل، و الصليبيين في الخارج. إحدى هذه الأساطير تزعم أنّ قراقوش كي يبني القلعة، أمرَ بهدمِ أهرام الجيزة كي يستخدم أحجارها، و أنه استعمل لبنائها خمسين ألفا من أسرى الإفرنج و الصليبيين. أسطورة أخرى تزعمُ أنّ صلاح الدين أمر بتعليق اللحم النيئ في شوارع القاهرة، ففسد ليلته، و لكنه عندما علقه في موضع الجبل، بقي لأكثر من يوم و ليلة، فكان سبباً لاختيار المكان. إذا كانت هذه الأسطورة صحيحة، فهي تؤكد نقاء هواء الجبل إذا ما قورن بهواء الفسطاط و القاهرة. هذا الافتراض لا يمكن أن يعمم على جميع دهاليز و أبراج القلعة، و خصوصا سراديبها التي كانت تُستخدم لحبس المساجين. في هذه القلعة حُبس أبناء العاضد الفاطمي كي لا ينازعوا صلاح الدين ملكَه. في هذه القلعة قتل غلمانُ شجرة الدرّ الأميرَ عز الدين أيبك و هو يسترخي عارياً في حمامه، ثم عُذب نفسُ الخدم جراء صنعتهم في الدهاليز السفلية للقلعة حتى اعترفوا بجريمتهم ثم قتلوا. في نفس هذه القلعة، في دهاليزِها السفلية فاسدةِ الهواء، حُبس الطبيب أبو الحسن علاء الدين علي بن أبي الحزم القرشي الدمشقي المُلقب بابن النفيس، بعد أن عثر رجال الشرطةِ على جثة ميتة لشابٍ عشريني، تستلقي بلا حراكٍ فوقَ الطاولة الخشبية.
في الليلة الأولى أخذ أبو الحسن يقرع باب السجن بكل قوته حتى أدمى قبضتيه. أخذ يصرخ مؤكدا أنه برئ من جرم القتل، و أن الجثة التي عثروا عليها كانت ميتة أصلاً، و أن زوجته العليلة بحاجة إلى تواجده، و لكن لا آذان للحرس و لا للجدران. في الليلة الثانية، سقط أبو الحسن عليلاً بسبب هواء الحبس الفاسد و أخذ يبكي و قد أحسّ بالضعف و العجز. في الليلة الثالثة، بدأ أبو الحسن يفكر بالاحتمالات المترتبة على فعلته: ماذا سيجري لفاطمة؟ هل أفاقت لتجد جثة القاسم ملقاة على طاولته؟ هل أزال رجال الدرك الجثة و دفنوها قبل أن تراها؟ ماذا قالوا لها؟ كيف فسروا اعتقاله و حبسه؟ من سيعتني بها الآن؟ و هل ستسامحه؟ لقد فعل كل ذلك لأجلها. كي يكتشف الحقيقة التي من شأنها أن تساعده في إيجاد شفاءٍ لها. الأحياء أولى بالبرِ من الأموات. الشاة الميتة لا يضرها السلخ، و لكن من سيفهمُ ذلك؟ من سيفهم؟
في فجر ثالثِ ليلةٍ منصرمةٍ منذُ حبسه، تقدم السجّان من الباب الأصمّ و أعمل مفاتيحه في قفلِه. كان أبو الحسن ينزوي متكوراًً في إحدى الزوايا و قد بان عليه الهزال و التعب. أشار إليه السجّان كي ينهض، و عندما تطلع فيه أبو الحسن بنظرات مستفهمة، قالَ السجان:
– مولانا السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس ينوي مقابلتك.
تحامل أبو الحسن على قدميه و قد هفا بقلبهِ نحوَ هذا البصيصٍ من الأمل، و أخذ يمشي متمهلاً وراء السجّان، ليقطعا دهاليزَ و أقبيةً مختلفة. كان نور الفجرِ الضعيف يتسلل من النوافذ المرتفعة للقلعة. و كانت النسمات العليلة تهبُ ما بين وقتٍ و آخر من أعلى لتبدل بهوائها النقي الهواءَ الفاسد المتجمع في رئتي أبي الحسن. عندما وصلا إلى مكان المجلس السلطاني، رأى أبو الحسن السلطان ركن الدين بيبرس متربعاً فوق عرشه. ها هنا الرجل الأسطورة، الرجل الذي هزم الصليبيين في المنصورة، و المغول في عين جالوت، و الذي لم يكن قبل ذلك أكثر من مملوك ذليل، يباع مع باقي الخدم و الجواري في سوق النخاسة. كانت عيناه الواسعتان بلون البندق، و جبهته الخشنة تجللها السمرة، و قد ارتسمت على خده الأيسر ندبة غائرة عريضة.
– أنتَ النطاسي أبو الحسن؟
– أنا هو يا مولاي.
– سمعتُ عنكَ كثيراً من رئيس البيمارستان الناصري. يقولون أنك أبرع أطباء الديار المصرية و الشامية.
– أرجو أن أكون كذلك.
– كنتُ أنوي أن أستعملك رئيسا على البيمارستان. أن تكون طبيبي الخاص. و لكن النبأ الذي وصلني من قبل رئيس الشرطة أزعجني كثيراً. أخبرني يا نطاسي، و لا تتجرأ بالكذب عليّ، هل قتلت الرجل الذي وُجدَ ميتاً في منزلك؟
– لم أقتله يا مولاي. لقد كان أحد تلاميذي، كان أنجبهم، و لقد كنتُ أخرج و إياه بحثاً عن الجثث الصالحة للتشريح و الدرس.
– أنتَ على علمٍ بالنهي المشدد الذي أصدرتهُ بخصوص نبشِ القبور.
– أعلمهُ يا مولاي. و لكني و تحت إغراء اقتراب الحقيقة و لذة الكشف، أبحتُ لطيشي أن يدفعني كي أعصي أمر مولاي المعظّم.
– حدثوني أنكَ رجلُ دينٍ يا نطاسي، فكيف أبحتَ لنفسك أن تعصي ربك، بعد أن عصيت أمرَ سلطانك؟
– الشاة الميتة لا يضرها السلخُ يا مولاي.
– للأموات حرمتهم.
– الأحياء أولى بالبرّ من الأموات.
قال أبو الحسن ذلك، و هو يفكر للمرة الألف بفاطمة. فاطمة التي تستلقي وحيدةً فوق سريرها، حيث لا أهل و لا سند.
سكتَ أبو الحسن، بينما أخذ السلطان يحدق مندهشاً في وجهه، و قد أُخذ بإصراره و تمنعه رغم حرج موقفِه. قال السلطان بعد تفكر:
– تتحدثُ عن الأحياء و كأنهم جنسٌ مختلف عن الأموات يا نطاسي. حتى الأحياء مصيرهم إلى الموت، و لو سألتهم هل سيرضون أن يُفعل بهم ما فعلته بموتاهم، لربما أجابوا بالامتناع. الأمر على أيّ حالٍ غير قابل للنقاش. أخبرني بباقي أمرِك، ماذا حصلَ لتلميذك؟
– لقد هربتُ و إياه من رجال الشرطة بعدَ أن افتضحَ أمرُنا. أثناء هروبنا، اضطررنا للقفز من فوق حائط، هبطتُ أنا سالماً، بينما تردد هو، و عندما قفز، سقط على رأسه فاندقت عنقه. كنتُ أنوي أن أتركه ميتاً وسط الدرب، و لكني رجعتُ فحملته على ظهري و سرتُ به إلى داري.
– لا تكمل. لا أريد أن أعرف ما حدث بعد ذلك. أنتَ إذن لم تقتله!
– لم أفعل.
– عرضي ما زال قائماً يا نطاسي. أريدكَ طبيباً خاصاً بي، و رئيساً للبيمارستان الناصري، مقابل أن تعدني أن لا تعود إلى نبش القبور و انتهاك حرمة الجثث.
– أعدكَ يا مولاي.
– أنتَ حرٌ إذن.
استدارَ أبو الحسن و قد امتلأ بالبهجة و الامتنان. سارع إلى الباب كي يجري إلى قيسارية الملقية، حيثُ داره و أعزّ الناس إليه، و لكن صوت السلطان تداركهُ من خلفه.
– يا نطاسي.
– مولاي.
– عندما قلتَ أنّ الأحياء أولى بالبرِ من الأموات كنتَ تقصدُ أحدَهم. أخبرني، هل لكَ قريب عليلٌ ترجو برأه؟
– زوجتي يا مولاي.
قالَ أبو الحسن ذلك، و هو يغادرُ بقدمه عتبة المجلس السلطاني، كي يتبع دهليزا مستقيما يؤدي إلى خارج القلعة. عندما خرج، استقبلته النسائم العليلة التي تهبُ من جبل المقطّم و ملأت أنفاسه. استنشق أبو الحسن الهواء بشغفٍ و هو لا يكادُ يصدق أنهُ حرٌ طليق؛ يمضي حيثُ يريد، و يملأ بالهواءِ النقي رئتيه متى ما يريد. مثلُ هذا الهواء يبعثُ الحياة ثانيةً وسطَ أطرافِك.
في هذه اللحظة، سقطت الحقيقة على أبي الحسن فتلقفها مندهشاً. الهواء! هو سرُ الحياة، كالماء تماماً. لم يهبنا الله الرئتين إلا لنستنشقه و نستخلصُ منهُ ذاك الإكسير. و لكن ماذا يحصل بعد أن نستخلصه؟ لا بدّ أن مضخة الجسم تدفعُ بهِ إلى باقي الأعضاء. جالينوس يفترض أن الهواء يمازج الدم في القلب، و لكن هذا زعم فاسد، إذ أنه يتجاهلُ وجود الرئتين. لا بدّ أن هناك دورة أخرى، تربط ما بين القلب و الرئتين، كما يرتبط القلب بباقي الجسم عبر الشريان الأكبر. لهذا السبب يتكون القلبُ من حجرتين. المضخة اليمنى تدفع بالقلب الفاسد إلى الرئتين، و المضخة اليسرى تدفعُ بالدم الممازجِ للهواء نحوَ باقي الأعضاء. هذه هي الحقيقة! شقان طوليان يجريان بتواز على امتداد عظم القصّ، و عندها قد أتبين الأوعية الخفية التي تصلُ حجرات القلب بالرئتين.
أخذ أبو الحسن يعدو كالمجنون شمالاً نحو القاهرة حتى دخلها من قبلِ باب زويلة. كانت الأفكار تتدافعُ في عقله تدافع الهواء في الرئتين، تدافع الدمِ في حجرات القلب. لقد حلّ لغز جالينوس، لقد فاقَ ابن سينا، كل ما يلزمهُ الآن هو أن يطوّر الفكرة قليلاً، أن يستغلها، أن يستخدمها جراحياً، كي يجدَ علاجاً لفاطمة.
عندما وصلَ دارَه أسفل القيسارية، ركلَ البابَ، فإذا بهِ يندفعُ مجلجلاً على مصراعيه.
– فاطمة.
صرخَ أبو الحسن.
– فاطمة، لقد رجعت.
كانَ الصمتُ مُطبقاً و ثقيلاً. تقدّم أبو الحسن بخطواتٍ وجلة، و قد استشعرَ شراً، خصوصاً بعد أن لاحظ باب غرفة نومِهما نصف مُشرع. دفع الباب بترددٍ، و نفسه تحدثه بالرجوع من حيث أتى، و لكنه لم يملك إلا أن يقفَ متسمراً مكانه، و هو يرى في أقصى الغرفة، زوجته فاطمة، تستلقي بوجومٍ على السرير، بدونَ وسادةٍ أو أغطية. كانت تمسكُ بين يديها زهرةً ذابلة، يابسة، متكسرةَ الأوراق. نفس تلكَ الزهرة التي أهدى إليها ليلةَ قُبِضَ عليه.
تقدّم أبو الحسن أكثر من السرير، و ساقاه بالكادِ تطاوعانه. كان وجهها ممتقعاً بصفرةٍ معروفة، سبق أن شاهدها آلاف المرات، و كانت عيناها تنظران إلى أعلى، حيثُ لا شيء.
تهاوى أبو الحسن إلى الأرض، و أخذ يبكي.. يبكي دون أن يقاوم المخالب المريرة التي أنشبت في حنجرته و صدره. إنهُ الموتُ إذن! بمخالبه الكريهة. ليسَ توقفَ القلبِ عن النبض، و لا غيابَ الحركة عن الأطراف، و إنما الفقد، الفقد الكبير الفادح.
زحفَ كالطفلِ إلى أسفل السرير. قبّل قدمي زوجته الباردتين. تحاملَ على ساعديه و ركبتيه. استلقى بجسده المُنهكِ فوق السرير. سحب الغطاء المُلقى على الأرض. أسبلهُ بعنايةٍ فوقَ جسدِه، و فوقَ الجثة. طوّق بساعديه جسدَها. أخذ يعفّرُ بالدموعِ جلبابَها. حاولَ أن ينام، و لكن عقلهُ كان فضاءً مُشرعاً للأفكار و الصور. تمنى لو يرجعُ محبوساً في أعماقِ السجن، أو يرجعُ مضغةً في رحمِ أمه، أو صبياً مع أهلهِ في الشام، يلهو و يلعبُ في أزقّة دمشق، دونَ أن يفكرَ أو أن يحب. تذكّر أمَه و هي تحدثهُ عن فاطمة، تذكّر وجهها ليلة أتى خاطباً إياها، تذكّر الرعدة التي سرت في جسدها عندما أمسك يدَها أولَ مرة. تخيّل الفرحة التي ستغمرها عندما يخبرها بالمنصب الجديد الذي اختصه به السلطان، تخيّلَ الولدَ الذي سينجبان معاً، و يربيان معاً، و يعيشان ليختارا له زوجةً معاً. و لكن، من بينِ جميع تلك الصورِ و تلك القلاقلِ و تلك التخيلات، كانت هناكَ فكرةٌ تتكررُ عليهِ بإلحاحٍ فيدفعها فزعاً منزعجاً. الأحياءُ أحقُ بالبرِ من الأموات. الشاةُ الذبيحةُ لا يضرُها السلخ. الشمسُ تتحركُ و معَها الوقت.
نهضَ أبو الحسنِ متثاقلاً و هو لا يصدقُ ما يفعل. سارَ بخطىً مترنحةٍ نحوَ الفناءِ الداخلي و تأكدَ من إقفالِ الباب. أسدلَ الستائرَ فوقَ النوافذِ حتى أطبقَ الظلامُ من كلِ صوب. عادَ إلى حجرةِ النوم. كانت عيناهُ متسعتان بشكلٍ مخيف، و قد احتقنتا بلونٍ أحمر كالدم. نظرَ لمرةٍ أخيرةٍ نحوَ زوجته: نحوَ الجثة. أغلقَ عينيها، و انحنى بظهرهِ المكروبِ كي يرفعها. كانت خفيفةً و باردةً ما بينَ ذراعيه. سارَ بها إلى الغرفة الشرقية من المنزل. انحنى و وضعها بترفقٍ على الطاولةِ. كانت المشارطُ و المباردُ و الكلاليب لا تزال مبعثرةً فوقَ الطاولة.
أزالَ أبو الحسن الجلباب الحريري عن جسدِ زوجته. أمسكَ بالمشرطِ البارد، و نظرَ بترددٍ نحو صدرها العاري. انحنى فوقَ الطاولة، و غرزَ مشرطه الحديدي بجانب ثديها. أخذَ يشقُ لنفسهِ نافذةً مستطيلة، تمتدُ طولياً على جانبي عظمِ القصّ. استخدمَ المقضّ كي يحطمَ أضلاعها صدرِها. استخدمَ الكلاليبَ كي يتمكن من مشاهدةِ أحشائها.
هناكَ، وسطَ صدرها، كان القلبُ متوقفاً و كأنه ساعة مكسورة، و كانت الرئتان منكمشتين و كأنهما اسفنجتان، و ما بين ذاك و هاتين كانت الحقيقة. تساقطت دموعُ أبو الحسن مدراراً فتشربتها مسامُ الطاولة الخشبية.
و لكن هناك، في أقصى الدار، و في غرفةٍ أخرى، كانت الوردة تتحللُ فوقَ البلاطِ ببطء.
عدي الحربش
Mar 14/ 09